إذا شعرت بتعاسة الحياة تذّكر أنّ الموت راحة من كل شر قد نحتاج لساعة من الألم تمحو الذنب وتغسل الخطيئة لا تستيقن بالظن دونما تُدرك الحقيقة ابحث في نفسك عن نفس تلك العيوب التي أطلقتها على الآخرين الحاضر سيؤول إلى الماضي اجعله ماضيا سعيدا لن تكن جميلا ما لم تكن خلوقا لا تأت متأخرا عمّ وصلت إليه عقول الناس هنيئا إذا كنت أنت الشمعة التي تضيئ لا تجعل من العار انتصار وهزيمة لا حياة تخلو من الندم الإرادة ينعم بها أهل العقول الإنسان بشر لا يستحقّ التقديس لا تخف من الأضواء الكلّ يأنس بها لا تشكُ من البين فهكذا هي الدنيا اجتماع وافتراق أحيانا ما يكون في الصمت لبّ الجواب إذا خذلك الأقرباء لن يخذلك الأسوياء من منّا بلا أخطاء كي نذيع أخطاء الآخرين خُلق الإنسان في الحياة فما تمنى أن يفارقها بغير طاعة الله لا يكون للحياة قيمة ولا معنى ليس يمنع من الإنصاف إلّا تدنّ في الأخلاق خُلق الإنسان في امتحان كي يهدى قمة الفوز المال مال الله يضعه حيثما يشاء ما هذه الدنيا إلّا محطة عبور ومنصة رحيل لا تقنط لخطاياك إنما المرء بشر خطّاء إذا أخطأت عد للوراء حيثما كنت ليس صديقك من سكت عن عيوبك الصديق هو من تشعر معه بنفس المصير إذا بحثت في عيوب الناس ستزداد عيوبا لولا وجود القبح ما أبصر الناس الجمال لم يكن الإنسان بريئا إلّا عندما كان رضيعا من شيمة المرء ذكر المحاسن وستر العيوب ابحث في نفسك عن الجمال فإنّ الله خلق نفوسا جميلة البشر يختلفون إلّا مشاعرهم تبقى واحدة المفكر هو من يعصر عقله من أجل عقول الآخرين دع المستحيل مستحيلا فما من أحد بلغ السراب السعداء هم من يسعد بأحاديثهم الناس عندما كبرت كان عقلا آخرا في انتظارك عندما تزف ساعة الرحيل قد نكون أناسا صالحين

الثورة الصناعية

‏كان أستاذ علم الاجتماع يبسط لنا درسًا حول تعاطينا مع صناعة الغرب حيث أنها تسهّل كثيرا حياة الإنسان بما يحمل إقناعًا إلى حد كبير ‏ويشير الأستاذ إلى أمثلة ليس لنا غنى عنها في حياتنا المعاصرة كنت حينها أُحدّق طويلا في جهاز التكييف ‏لم أنسِ تلك الحصة الجامعة التي أطلقت فيها لأول مرة لساني للعنان ‏فقد صحوت على ما تنبت أغصانه خارج قبضة المسار وحدست يوما يقع فيه الصدام لمّا تجابه سفنه عكس الرّيح

‏لم أجد وعاء يبدد في داخلي كل الصمت ولم أستوعب كيف لإنسان هذا العصر أن يمارس على نفسه ألوان باهتة من الكذب كنت ألمح في وجوه الناس ذلك الكائن المجهول وهو ينخر من تحت أسوار هذا العالم كي يحدث تحولا حقيقيا في حياة الناس آنذاك لم يكن الفقر يتأففون فلم أجد من يخامره الشك مثلي يتصور معي ذلك الشّؤم القادم

‏لقد كنت أضمر من أبي رحمه الله الّذي كان يغبطه الجميع رغم قسوته التي لا تكاد تخلو من العاطفة ‏إذ كان أبي أول علامة استفهام محيّرة لي في حياتي وكنت أتساءل أكان أبي شاعرا ثائرا أم أردى هزيلا عصفت به المقادير ‏لكنّ بأيّ حال لم يكن أبي في محلّ اعتراض لما يقول الأستاذ فطالما ما كان أبي يعتني بجهاز التّكييف الوحيد وسط فناء المنزل

‏لكم كان ذاك الفائت حلوا لم تكن حروبه مستعرة ولم تكن ذنوبه عظيمة وكان المستقبل يمشط في سلالم الغيب لرقعة حلم جميل والناس كانوا يُفكرون بكل الطرق التي يجنون بها الأموال ‏أبان جرى ذلك الحوار كانت شمس ذلك الصباح دافئة وساطعة مزهوة لم تكن غاضبة متوعدة كشمسنا هذه وكان أيضا مساء ذلك اليوم عليلا من بين أمسياتي قليلة الندرة

‏فُتحت شبابيك الفصل لتندفع نسمات هواء باردة مشبعة بشذى الأزهار تنعش القلوب وتوقظ الذّاكرة وتجلب سرعة البديهة وكان كل شيء يبعث على الانشراح ‏عادت تطوف بي الذاكرة لأول مدرسة لنا مهيبة في البلدة كانت حديقتها تغصّ بالشّجيرات والأعواد الرّطبة
‏وتزدان بنخلاتها الواعدة بسعفها الباسق ويتعلق على صدرها بلحها الأصفر وفي الظّلّ كانت هناك جداول مياه رقراقة تطلق أبخرتها الدّافئة في فصل الشتاء على جنبيها تصطف الزّهور اليانعة ذات الألوان البديعة وتدور من حولها الفراشات وكسا ذلك المكان ضباب خجول

‏لم يكن الهواء مشبعا برذاذ الأسفلت أو عوادم المركبات عدا رائحة عطب مشتهاة تصدر من إحدى الحقول القريبة من البلدة آنما كان الفلّاحون ينهمكون في أعمالهم في وقت من أوقات السنة ‏كان أقراني من الأطفال يلاحقن الفراشات في فناء المدرسة وضجيجهم كان يملأ المكان

‏لم تكن واحتنا بقدر ما يحيطها من صحاري قاحلة تسمح بتجلّي أكثرا الوصف بيد الآن انطمست كثير من حقولنا القديمة ونضبت عيونها الجارية لتبق أسماءها فقط تطلق على أحيائنا السكنية الكبيرة

‏لقد شيّدت مدرستنا تلك من الطّين وجذوع النخيل والأخشاب بحرفة علميّة صرفه وبحلّة فنيّة فريدة تحمل كلّ معاني التّبجيل والقداسة وتحتمل كثيرا شقاوة الأطفال وكانت علاقة أولئك المربين بالأطفال كعلاقة الأبناء مع آبائهم الحقيقيّين

‏ كان البعض يعتنق مذاهبا شتى كان لكل منهم هتاف مختلف فمنهم من يُلوّح لمدارس العصر الاشتراكية والشيوعية والعلمانية وأكثر ما كانت الماسونية حاضرة خلف معطف كل تلك التيارات ‏والليبرالية حبيسة أدراج الديموقراطية أكبر خدعة مرت في التاريخ لمّا تتحول إلى ديكتاتورية شنيعة لكنها كانت ندّا للرّأسمالية الرجعية والإقطاعية المستبدة

‏والمرجعيات الدينية المغالية أشدّ ما كانت عدوة للوسطية المعتدلة صديقة الديانات الثلاث ‏لم توجه هذه الأحزاب يوما دعوة لكبت العداء وللسلم والتعايش ولم تعمل يوما لتحقيق رغبات الإنسان أ‏و توفير أمنياته البسيطة بل كانت تدعو للثورات دونما تجد لها طريقا أوحدا للخلاص

‏غير أولئك الذين كانوا يقبعون خلف شعارات جوفاء وخطب حماسية رنانة يدعون بها إلى استرداد حقوقهم المغتصبة بينما يواصلون فيما بينهم التّناحر ويتبادلون الأحقاد دونما يأبهون بسوء العواقب بل أكثر ما كانوا يحبون المال والسلطة لم يعلم كل هؤلاء الذين كانوا يعملون بعدوانية مفرطة كيف تجسد الشر ومثل متحديا أمامهم

‏قرعت طبول الحرب وفي قبالة المحلات في تلك الأزقة القديمة أبنية مهدّمة بفعل الصواريخ تحتبس فيها الأنفاس وتدوي فيها أصوات التفجير ‏فيزداد هلع النساء ورعب الأطفال والأجساد غائصة تحت الأنقاض ليس لأعضائها بقية تسربلت بالدماء وأقفل منافذها التراب واختلطت بالأحشاء والأدمغة وعلى جنبات الطريق حول بقع من الدماء جثامين مهملة

‏لم يدر بخلد أولئك الأطفال ما خبأ لهم في طياته القدر وما كان ينتظرهم في مستقبلهم الوعود غير أن لفظوا أنفاسهم الأخيرة بالغازات السامة وبالبراميل المتفجرة وحوصروا حتى ماتوا جوعا في رحلتهم القصيرة جدا في الحياة وهم يرون بأعينهم أمهاتهم يغتصبن وآباؤهم يُنحرون أو يحرقون أو يدفنون وهم أحياء أو يُركلون بلا انقطاع حتى تختطفهم سنارة الموت

‏لم يتيقن العالم قبل عصر الصناعة والتكنلوجيا المتقدمة من تطوير جاهزية تلك الأسلحة المحرمة التي من شأنها أن تقتل كلّ شيء ينبض في البيئة أو تفني الحياة كاملة على وجه الأرض ‏هذه الأسلحة المحرمة لم تكن موجهة ضد الإنسان فحسب بل موجهة أيضا ضد البيئة

‏لحسن الحظ في ذلك الصباح لم يكن جهاز التّكييف يعمل ويُحدثُ طنينا متواصلا داخل قاعة الفصل عوضا عمّ تغدقه الطبيعة ‏لئلا يبعثر ذلك الصفاء ويبدد ذلك السكون ولم يكن يجل الصمت إلّا قليلا من قرقعة قراطيس التلاميذ ومن وشوشة عابرة لا تكسر عادة قاعدة الصمت

‏بادرني الأستاذ لمّا كنت أطرح بعض الأسئلة قائلا لي يا بني مهمّتي أن أصل هذه المادة لأفهام الطلاب فلا تطرح مثل هذه الأسئلة فتبدّد على زملاؤك الوقت ‏فاسترعيت شيئًا من طول أناة وصبر الأستاذ فقلت ألا يُسمح لنا بطرح السّؤال لما فيه مؤدٍّ للرّسوخ فلا تزال هناك مسائلٌ عالقة محيّرةٌ

‏واستطردت لِم كان الطقس معتدلا آنما كنا نسكن بيوتنا الطينية وننام في الهواء الطلق على أسطح المنازل ونصحو في بواكير الصّباح ‏وقد تزودت أجسادنا بهرمون الطبيعة ممّا يكسبنا الحيوية والتألق والنشاط وأظن أيضا أنها كانت أساليب الغرب قبل عهد الصناعة

‏وقتما دار ذلك الحوار لم يكن أحد يتحدث عن نهاية العالم ولم تظهر فوادح الصناعة ‏ويتبين أن غاز الفريون المنبعث من جهاز التكييف قد تسبب بثقب طبقة الغلاف الجوي مما نجم عنه نشوء أمراض قاتلة ‏ولم يخل أن الثورة الصناعية كانت السبب الرئيس لتبدل المناخ وتصحر البيئة.

التعليقات مغلقة.

الحقوق محفوظة لموقع مدونتي تصميم وبرمجة شركة حياة هوست