الثورة الصناعية
أستاذ علم الاجتماع كان يبسط لنا درسا حول تعاطينا مع صناعات الغرب، لأنها تسهّل كثيرًا حياة الإنسان، ما يحمل إقناعًا إلى حد كبير. وهنا يشير الأستاذ لأمثلة لا غنا لنا عنها في حياتنا المعاصرة حينها كنت أُحدّق في جهاز التكييف لم أنسِ تلك الحصة الجامعة التي أطلقت فيها لأول مرة لساني للحوار. فقد صحوت على ما تنبت أغصانه خارج قبضة المسار، فحدست يومًا لا بدّ أن يقع فيه الصدام لمّا تجابه سفنه عكس الرّيح.
كنت ألمح كائن مجهول وهو ينخر من تحت الأسوار كي يحدث يوما تحولا حقيقيا في حياة الناس. لم يكن الفقراء يتأففون، ولم أجد من يخامره الشك مثلي كي يتصور ذلك الشّؤم القادم. لقد كنت أضمر من معلمي الأول أبي رحمه الله، الّذي كان يغبطه الجميع لولا قسوته تلك التي لا تكاد تخلو من العاطفة.
إذ كان أبي أول علامة استفهام كانت محيّرة لي في حياتي، وكنت أتساءل: أكان أبي شاعرًا ثائرا أم أردى هزيلًا محطما عصفت به المقادير؟ لكنّ بأيّة حال لم يكن أبي في محلّ اعتراض لما يقول الأستاذ. فطالما ما كان أبي يعتني بجهاز التّكييف الوحيد وسط فناء المنزل.
كم كان ذلك الفائت حلوًا، لم تكن حروبه مستعرة، ولم تكن ذنوبه عظيمة. والمستقبل كان يمشط في سلالم الغيب لرقعة حلم جميلْ وكان الناس يفكرون بأنجع الطرق التي يجنون بها الأموال. أبان جرى ذلك الحوار، كانت شمس ذلك الصباح ساطعة مزهوة، لم تكن غاضبة متوعدة كشمسنا هذه. وكان أيضًا مساء ذلك اليوم عليلا من بين أمسياتي قليلة الندرة.
فُتحت شبابيك الفصل لتندفع نسمات هواء باردة مشبعة بشذى الأزهار تنعش القلوب وتوقظ الذّاكرة وتجلب سرعة البديهة. ما يبعث تماما على الانشراح. عادت بي الذاكرة لأول مدرسة لنا مهيبة في البلدة، تغصّ حديقتها بالشّجيرات والأعواد الرّطبة. وتزدان بنخلاتها الواعدة، وعلى صدرها يتدلى بلحها الأصفر
وفي الظل كانت هناك جداول مياه رقراقة تطلق أبخرتها الدّافئة في فصل الشتاء وتصطف على جنبيها الزّهور اليانعة ذات الألوان البديعة ومن حولها تدور الفراشات وقد كسا ذلك المكان ضباب خجول. لم يكن الهواء مشبعًا برذاذ الأسفلت أو عوادم المركبات، عدا رائحة عطب مشتهاة تصدر من إحدى الحقول القريبة من البلدة. آنما كان الفلّاحون ينهمكون في أعمالهم في وقت من أوقات السنة.
كان أقراني من الأطفال يلاحقن الفراشات في فناء المدرسة، وضجيجهم كان يملأ المكان. لم تكن واحتنا بقدر ما يحيط بها من صحاري قاحلة تسمح بتجلّي الوصف. بيد الآن طُمست حقولنا القديمة ونضبت عيونها الجارية لتبق أسماءها فقط تطلق على أحيائنا السكنية الكبيرة.
لقد شيّدت مدرستنا تلك من الطّين وجذوع النخيل والأخشاب بحرفة علميّة صرفه وبحلّة فنيّة فريدة تحمل كلّ معاني التّبجيل والقداسة. وتحتمل كثيرًا شقاوة الأطفال. كانت علاقة أولئك المربين بالأطفال كعلاقة الأبناء مع آبائهم الحقيقيّين.
كان البعض يعتنق مذاهبًا شتى، لكل منهم هتاف مختلف. فمنهم من يُلوّح لمدارس العصر الاشتراكية والشيوعية والعلمانية، وأكثر ما كانت الماسونية حاضرة خلف معطف كل تلك التيارات. والليبرالية حبيسة أدراج الديموقراطية، أكبر خدعة مرت في التاريخ لمّا تتحول إلى ديكتاتورية شنيعة، غير أنها كانت ندّا للرّأسمالية الرجعية والإقطاعية المستبدة.
والمرجعيات الدينية المغالية أشدّ ما كانت عدوة للوسطية المعتدلة صديقة الديانات الثلاث. لم توجه هذه الأحزاب يومًا دعوة لكبت العداء وللسلم والتعايش، ولم تعمل يومًا لتحقيق رغبات الإنسان أو توفير أمنياته البسيطة، بل كانت تدعو للثورات دونما يجدو طريقًا أوحدًا للخلاص.
غير أولئك الذين كانوا يقبعون خلف شعارات جوفاء وخطب حماسية رنانة، يدعون بها إلى استرداد حقوقهم المغتصبة، بينما يواصلون فيما بينهم التّناحر ويتبادلون بينهم الأحقاد دونما يأبهون بسوء العواقب، بل أكثر ما كانوا يحبون المال والسلطة. لم يعلم كل هؤلاء الذين كانوا يعملون بعدوانية مفرطة كيف تجسد الشر ومثل متحديا أمامهم.
قرعت طبول الحرب، في قبالة المحلات في الأزقة القديمة أبنية مهدّمة بفعل الصواريخ، تحتبس فيها الأنفاس عندما أصوات التفجير. فيزداد هلع النساء وتصطفق قلوب الأطفال والأجساد غائصة تحت الأنقاض، أشلاء ليس لأعضائها بقية، تسربلت بالدماء واختلطت بالأحشاء والأدمغة. وأقفل منافذها التراب وعلى جنبات الطريق حول بقع من الدماء جثامين مهملة.
لم يدر بخلد أولئك الأطفال ما خبأ لهم في طياته القدر، وما كان ينتظرهم في غدهم الموعود، غير أن لفظوا أنفاسهم الأخيرة بالغازات السامة وبالبراميل المتفجرة أو ماتوا جوعًا في رحلتهم القصير جدا في الحياة.
لم يتيقن العالم قبل عصر الصناعة والتكنلوجيا المتقدمة من تطوير جاهزية تلك الأسلحة المحرمة التي من شأنها أن تفني الحياة على كوكب الأرض لحسن الحظ في ذلك الصباح لم يكن جهاز التّكييف يعمل ويُحدثُ طنينًا متواصلًا داخل قاعة الفصل عوضًا عمّ تغدقه الطبيعة، لئلا يبعثر ذلك الصفاء ويبدد ذلك السكون. ولم يكن يجل الصمت إلّا قليلًا من قرقعة قراطيس التلاميذ ومن وشوشة عابرة لا تكسر عادة قاعدة الصمت.
بادرني الأستاذ لمّا كنت أطرح بعض الأسئلة قائلًا لي: يا بني، مهمّتي أن أصل هذه المادة لأفهام الطلاب، فلا تطرح مثل هذه الأسئلة فتبدّد على زملاؤك الوقت. فاسترعيت شيئا من أناة وصبر الأستاذ، وقلت: ألا يُسمح لنا بطرح السّؤال لما فيه مؤدٍّ للرّسوخ، فلا تزال هناك مسائلٌ عالقة محيّرةٌ.
واستطردت: لم كان الطقس معتدلًا لمّا كنا نسكن بيوتنا الطينية وننام في الهواء الطلق على أسطح المنازل ونصحو في بواكير الصّباح، وقد تزودت أجسادنا بهرمون الطبيعة، ممّا يكسبنا التألق والحيوية والنشاط.
أظن أنها كانت أيضا أساليب الغرب قبل عهد الصناعة. وقتما دار ذلك الحوار، لم يكن أحد يتحدث عن نهاية العالم، ولم تظهر فوادح الصناعة. ويتبين أن غاز الفريون المنبعث من جهاز التكييف قد تسبب بثقب طبقة الغلاف الجوي، مما نجم عنه نشوء أمراض قاتلة. ولم يخل أن الثورة الصناعية كانت السبب الرئيس لتبدل المناخ وتصحر البيئة.